"المساواة ليست أمراً مكتسباً، بل هي محلّ
نضال دائم"، بحسب الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران. لا يُخفى على أحد أنّ
المقصود هنا هو المساواة في الحقوق على أساس مبادئ العدالة الاجتماعية والسعي إلى الإنصاف
والتكافؤ في الفرص.
إرساء العدالة الاجتماعية يوجب توفّر مكوّنات
دولة المؤسسات، الأمر الذي يفترض قيماً ثقافية واجتماعية يتبادلها أبناء المجتمع الواحد
فتمثّل إطاراً توحيدياً لهم رغم التناقضات التي تفرّقهم. لعلّ أولى هذه القيم هي سموّ
الحرية الشخصية والفردية.
وتأتي قضيّة "البوركيني" في فرنسا
أخيراً، لتفتح النقاش مجدداً حول المفاضلة بين الحرية الشخصية لا سيما بوجهها الديني
من جهة، والعلمانية إحدى أهم ركائز دولة المؤسسات من جهة أخرى. وكان القرار الإداري
قد حاول الحدّ من الحرية، لاعتبارات سياسية حاول البعض تمريرها تحت غطاء عدم المساس
بالنظام العام، مستندين إلى جوهر مبدأ العلمانية في المجتمع الفرنسي.
إذا كان مفهوم الحرية معروفاً بدقة من قبل
الجميع، فإنّ ماهية العلمانية تبدو أكثر تعقيداً، وهي غالباً ما تُقارب عبر إدماجها
بمفاهيم لا تمت إليها بصلة كالإلحاد واللادينية، في حين أنّها في جوهرها تهدف إلى حماية
الحرية الدينية للأفراد عبر عدم التفرقة بين المواطنين المنتمين إلى فئات دينية مختلفة.
تهدف العلمانية إلى إقامة "الدولة
المدنية" التي تستمدّ شرعيتها من سلطة زمنية هي سلطة الشعب، استناداً إلى دساتير
لا تعدّ النص الديني أساساً للتشريع، بالمقارنة مع "الدولة الدينية" التي
تستمد شرعيتها من سلطة روحية دينية ومن ضرورة ملاءمة التشريع للمفاهيم والمبادئ الدينية
السائدة في المجتمع. من هنا، فإنّ العلمانية تعني أولاً حيادية سلطات الدولة في الأمور
الدينية. بمعنى آخر، تسعى العلمانية إلى تكريس مبدأ فصل السلطات السياسية عن السلطات
الدينية، فلا يحق للدولة العلمانية التدخل في إدارة الهيئات الدينية أو تمويلها، الأمر
الذي يؤدي إلى ممارسة كل فئة لقناعاتها ومعتقداتها بحرية تامة بعيداً عن ضغوطات السلطة
السياسية.
تترتب على عملية الفصل آثار قانونية تطاول
حياة الأفراد اليومية، إذ تحلّ مؤسسات الدولة المدنية محلّ المؤسسات الدينية لإتمام
بعض الإجراءات الإدارية مثلما هي الحال في عقود الزواج ومعاملات الإرث وغيرها. يُذكر
أنّ ذلك لا يمنع الأفراد من إتمام الإجراءات الإدارية أمام المحافل الدينية كالزواج
لدى المأذون مثلاً، إلا أنّ القيمة القانونية تبقى فقط للمعاملات المدنية دون سواها.
العلمانية هي التزام الدول ومؤسساتها باحترام
حرية المعتقد، الأمر الذي يعني من جهة أولى أنّ الأفراد يمارسون طقوسهم ومعتقداتهم
بحريّة، وأنّ على الدولة أن تضمن لهم ممارستهم تلك وأن تحميها بقوة القانون. كذلك،
عليها من جهة ثانية أن تؤمّن الاحتياجات الضرورية وتزيل العوائق القانونية والواقعية
المهدّدة لممارسة هذه الحرية.
العلمانية تعني كذلك، أن تساوي الدولة المدنية
بين جميع الأديان وأن تتعامل مع الهيئات الممثلة لها على قاعدة المساواة من دون أن
تكون لفئة امتيازات على فئة أخرى، الأمر الذي يضمن التعددية الدينية ويساهم في التنوع
الذي يغني العملية الديمقراطية.
تعريف العلمانية هذا يفترض أن يجعل منها
تقنية إيجابية اجتماعياً، إذ تساعد على التضامن المجتمعي فلا تؤدّي إلى الانقسام بين
مكوّنات المجتمع. من هنا يمكن القول إنّ أيّ طرح غير موضوعي للحدّ من الحرية الدينية
لفئة معيّنة باسم العلمانية، هو طرح لا يتلاءم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كذلك
فإنّ هذا الطرح يُعدّ مساساً بمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون الذي لا ينبغي أن
يكون مجرّد مبدأ شكليّ أو حبر على ورق، بل يجب أن يُطبّق حتى تكون العلمانية الإيجابية
مصدراً لانتفاء التمييز بين المواطنين في ممارسة حقوقهم بالمعتقد وبغير المعتقد.
القاعدة العامة إذاً هي أنّ العلمانية لا
بدّ من أن تكون حامية للحرية الدينية، وليس سبباً للانتقاص منها. وهذا ما قرّره مجلس
الدولة الفرنسي وهو أعلى سلطة قضائية إدارية فرنسية، في قضية "البوركيني"،
إذ أصدر أوّل من أمس (الجمعة) حكماً أولياً بأنّ "القرار الإداري الذي يمنع هذا
اللباس البحري يشكّل مساساً وتعرّضاً فادحاً وغير قانوني لحريات أساسية أهمّها حرية
التنقل وحرية المعتقد والحرية الشخصية".
من هنا، يمكن القول إنّه في حال المفاضلة
بين احترام مبدأ الحرية الفردية الدينية من جهة وبين احترام مبدأ العلمانية من جهة
مقابلة، فإنّ الغلبة يفترض أن تكون للأولى وهذا ما يتلاءم مع مختلف دساتير الدول المدنية
العلمانية. لكن لا تخفى علينا الإشارة إلى أنّ هذه المفاضلة تصبح لصالح العلمانية عند
تصبح ممارسة الحرية تعسفية وتخالف القواعد القانونية الإلزامية ومبادئ النظام العام.
المساس بمبدأ الحرية لا يمكن أن يكون إلا
بنصّ تشريعي عام وشامل وموضوعي يطبّق على مختلف مكوّنات المجتمع من دون تفريق ولا تمييز،
وإلا أصبح القانون والتشريع عموماً أداة للسلطة بهدف المساس بالحرية الفردية. وهو أمر
يؤدّي إلى تقهقر الثقة بين السلطة والشعب، وينتهي بتحوّل دولة المؤسسات إلى دولة فاشلة.
تجدر الإشارة إلى أنّ المساس بالحرية الدينية
من قبل السلطات العامة يبقى محكوماً بمبدأ التناسب، الأمر الذي يعني أنّ أيّ قرار إداري
يمسّ بهذه الحرية، لا بدّ من أن يكون متناسباً مع المخاطر المترتّبة على سوء استعمال
هذه الحرية، وهو أمر يجب على الإدارة إثباته استناداً إلى ظروف المكان والزمان التي
رافقت إصدار القرار، الذي بدوره يبقى خاضعاً لرقابة القضاء الإداري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.